لدى المسلمين إنتاج فكري غزير في كَمِّه، متنوع في موضوعاته، والمتصفِّح لكتاب "الفهرست" لابن النديم وكتاب حاجي خليفة "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" يستطيع أن يرسم صورةً تقريبيةً لما بلغه الإنتاج الفكري العربي الإسلامي من النموِّ والازدهار في مختلف العلوم والفنون التي نبَغَ فيها علماءُ العرب والمسلمين في وقتهم.
فقدموا إنجازاتٍ رائعةً في جميع حقول المعرفة؛ مما جعل الأمة الإسلامية أغنى الأمم؛ لما لها من تراث علمي يعجز عنه الحصر.
فقد كان للمسلمين سيلٌ دفَّاقٌ من المخطوطات، وصارَ لكل علم فنونٌ تتبعه وتخصه، ومن أهم تلك المؤلفات التي تكلَّم الكتابُ فيها عن الصناعات الحربية والآلات النارية والمدافع وأنواع الأسلحة وما يخدمها من صناعات.
وهذه المؤلفات تمثِّل وثائق التصنيع الحربي الإسلامية، وقد وضع هذا التراث للعسكرية الإسلامية في العصور الوسطى قواعدها وأصولها وصار التأليف العسكري الحربي عِلمًا مستقلًا ذا فروع كثيرة، فالباحث في فهارس المخطوطات يجد مؤلفاتٍ تربو على الألف تتعلق بالنواحي العسكرية.
ولا تزال هذه المؤلفات حبيسةَ المكتبات العامة في إسطنبول وباريس ولندن وبرلين ولينينجراد والإسكوريال والقاهرة ومعهد المخطوطات العربية وغيرها من المكتبات العامة والخاصة.
ونستطيع أن نؤكد أن هذا الاهتمام الذي أولاه كثيرٌ من الكُتَّاب للتأليف في التصنيع العسكري الحربي جاءَ انطلاقًا من مكانة هذا الجانب في الإسلام وحثّه على التقدم فيه، يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
كما جاء نتيجة حث الإسلام على ضرورة وحتمية الجهاد في سبيل الله، فقد جعل الله تعالى الجهادَ فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة، فجعله ذروة سنام الإسلام؛ لذلك عُني الإسلام بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة.
يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]. كما علمنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فنون القتال، وأن الخديعة والحيلة أثناء الحروب مطلوبةٌ شرعًا؛ لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لنعيم بن مسعود يوم الأحزاب: "الحرب خدعة". وكذلك رغَّب الصحابي الجليل عمر بن الخطاب في تعليم السباحة وركوب الخيل، وهي من الأسس المهمة المُعِينة على القيام بالمهام العسكرية.
كل هذه الأمور مجتمعة جعلت كثيرًا من المؤلفين يعكفون على استغلال خبراتهم الواسعة في تجديد الروح العسكرية القتالية وابتكار الحِيَل وتطوير المعدَّات والأدوات العسكرية التي تفوَّقوا فيها في فترات قوتهم، هذا على المستوى التسليحي، كما أولوا اهتمامًا كبيرًا بالجندي وتطوير أساليب وفنون القتال لديه.
كما اهتموا بشئون الخيل والفروسية والحِيَل العسكرية، مع إدراكهم للعوامل الإيمانية والروحية ودورها الفعَّال مع التفوُّق العسكري في إحراز النصر على أعدائهم وإظهار القوة عليه والظفر به والاحتراس من مكائده.
إن الاهتمام بهذا النوع من التأليف يجعلنا نعرض في هذا الصدد نماذج لمخطوطات ومؤلفات في التراث العسكري تهتم بالشئون العسكرية الإسلامية وكيفية تطويرها؛ ذلك أن استغلال الموروث العلمي من المخطوطات الحربية الإسلامية أصبح في وقتنا الحاضر ضروريًّا ومُلزمًا للكشف عنه والعمل على ترتيبه وتبويبه وتحقيقه وإعداد الفهارس الخاصة به للاستفادة منه.
فالاهتمام بهذا التراث وإبراز معالمه مُفيدٌ في إضاءة جوانب مهمة من تاريخنا الحربي العريق وخصائصه الذاتية التي تُميِّزه عن غيره، ويمكن تقسيم هذه المؤلفات إلى ما يلي:
المعدات والآلات الحربية:
بدراسة المصادر وما حَوَته من نصوص وموضوعات ورسائل نجد أن المسلمين اهتموا بتصنيع كثير من المعدات الحربية وتطويرها، فهم الذين اكتشفوا مسحوق "البارود"، فقد قدَّم لنا العالِم "مرسييه" نتيجة أبحاث جادة تُثبت معرفة العرب في وقت متقدم بكل ما يتعلق بصناعة البارود، فضلًا عن استخدامه في القذائف التي كانوا يطلقونها في حروبهم مع الصليبيين.
وهو ما يؤكده مؤرِّخو الحروب الصليبية، فيذكرون أن الصليبيين كانوا يجهلون تمامًا أسرارَ القذائف النارية التي كان المسلمون يقذفون بها عليهم، وقد وصفوا حالات الذعر والهلع التي كانت تسيطر على جيوشهم من جرَّاء تلك القذائف، وكان مسحوق البارود يتكون من نترات البوتاس والفحم والكبريت، وهو ما أُطلق عليه معجون البارود.
ومن أهم وأقدم المخطوطات الإسلامية التي تفردت بدراسة البارود رسالة بعنوان "الفروسية في رسم الجهاد" لنجم الدين حسن الأحدب المتوفَّى سنة 1294م، وتشتمل هذه الرسالة على إشارات إلى وصفات كاملة اشتملت تركيب هيئة البارود. وهناك مخطوطٌ بعنوان "الحياة والحروب وآلات السلاح وحصار القلاع وصنعة السيف والرمي بالنشاب وعمل البارود".
ويرجع هذا المخطوط إلى سنة 622هـ، وتوجد نسخةٌ منه في مكتبة ليدن تحت رقم 92، ومخطوطٌ بعنوان "اللعب بالبندق" لأبي عبد الله بن إسماعيل بن عبيد الله البغدادي المعروف بابن البقَّال المتوفَّى سنة 588هـ، ومخطوط "رسالة في الرمي بالبندق" لمؤلفه عماد الدين إسماعيل المعروف بابن كثير الحافظ الدمشقي.
كما أنجز لنا إبراهيم بن أحمد غانم بن محمد بن زكريا كتابًا كبيرًا باسم "العزّ والرفعة للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع"، وقد شرع في تأليفه سنة 1631م، ويعتبر أول من نعرفه عالمًا يصنِّف كتابًا يتحدث بشكل تخصصي في المدافع والبارود؛ حيث تحدث عن المدافع البرونزية.
وأعطانا دلائل على التحوُّل النوعي في استخدام قذائف المدفعية بصنع قذائف تنفجر فتُسبِّب القتل والحرق أو الإضاءة في القتال الليلي، وتوجد نسخة من هذا المخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 86. ومن المخطوطات المهمة التي تناولت الصنائع الحربية كتاب "الأحكام السلطانية في سياسة الصنائع الحربية" لمؤلفه محمد بن محمود بن الناصري القاهري المتوفى سنة 784هـ/ 1382م، وتوجد نسخةٌ من المخطوط بمكتبة إسطنبول.
المؤلفات الحربية البحرية:
صنف المؤلفون المسلمون كثيرًا من المؤلفات التي تهتم بسلاح البحرية الإسلامية، فصنَّفوا في علم الملاحة وفنون البحر وأفردوا للآلات المستعملة في الحروب البحرية والأدوات الضرورية لركوب البحر العديد من المؤلفات، ولا غرْو في ذلك، فقد وضعت الدولة الإسلامية يدَها على شواطئ البحرين الأحمر والمتوسط وكذلك المحيط الهندي والأطلنطي؛ ولذلك عظمت صولتُهم وسلطانُهم عليهم، ولذلك كان لا بُدَّ من إنشاء الأساطيل والسفن البحرية.
ومن أهم المخطوطات التي غطَّت جوانب من البحرية الإسلامية كتاب "المترجم الكبير إلى علوم البحر" الذي ألفه أبو معشر المنجم، وكتاب "الرهماني في علوم البحر" تأليف محمد بن شادان.
وهناك من المؤلفات التي خدمت علم البحار خدمات جليلة، كعلم الفلك، فقد ألف كثيرون من علماء الفلك في آلة الأسطرلاب التي تُستخدم في تحديد مسارات السفن، ومن أهم تلك المؤلفات مخطوط "رسالة في عمل الأسطرلاب" تأليف جابر بن حيان الصوفي المتوفى سنة 161هـ، ومخطوط "العمل بالأسطرلاب" لأبي العباس الفضل بين حاتم التبريزي.
وقد ألفه للخليفة العباسي المعتضد، وتوجد نسخةٌ منه في مكتبة الإسكوريال تحت رقم 961، ومخطوط "استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الأسطرلاب" لأبي الريحان البيروني، وتوجد نسخةٌ منه في المتحف البريطاني وأخرى بمكتبة المجلس النيابي بطهران.
ومن الآلات التي استُعملت بكثرة في الحروب البحرية المناجيق، وقد كانت تُحمل في سفن الأسطول البحري المسمَّاة الشواني التي كانت تجهَّز بالعدد والآلات وتشحن بالنفطية والأزودة والمنجنيقات وتزوَّد بها القلاع والأبراج.
وقد أُلِّف في المناجيق الكثير من المؤلفات، أهمها مخطوط "الأنيق في المجانيق" تأليف ارتبغا الزردكاشي، والذي قدمه للأمير شمس العلاء منكلي سنة 867هـ، ويتألف الكتاب من 109 صفحات، وفيه حوالي خمسمائة رسم، وتوجد نسخة منه بدار الكتب المصرية، ونسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية، وقد طُبع هذا الكتاب في حلب سنة 1985م.
مؤلفات في الحيل الحربية:
العسكرية الإسلاميةأدرك المسلمون أهمية الحِيَل ليس في السياسة فقط بل في الحروب أيضًا، والباحث في فهارس المخطوطات يجد الكثير من تلك المؤلفات، منها على سبيل المثال "التذكرة الهروية في الحيل البحرية" تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي المتوفى سنة 611هـ/ 1214م.
وتوجد نسخة في دار الكتب المصرية، ونسخة مصوَّرة بمعهد المخطوطات العربية. وكذلك كتاب "الحيل في الحروب وفتح المدائن وحفظ الدروب" لمؤلفه محمد بن منكلي الشمس المصري، وتوجد منه نسختان بخزانة آيا صوفيا بتركيا ونسخة في متحف ليدن، وأخرى مصورة بمعهد المخطوطات العربية.
وهناك من المؤلفات التي تحدثت عن فنون الحرب الكثير، ومنها مخطوط "فن الحرب" لمؤلفه محمد بن منكلي، وهو يتحدث عن سياسة الصنائع الحربية، ومخطوط "تفريج الكروب في تدبير الحروب" لأبي عبد الله محمد بن محمد الرشيدي والمحفوظ بمعهد المخطوطات العربية.
وكتاب "كشف الكروب في معرفة الحروب" لمؤلفه عماد الدين موسى بن محمد اليوسفي المصري سنة 759هـ، وقدمه للملك الظاهر جقمق، وتوجد نسخةٌ منه في المتحف الحربي بالقاهرة.
وقد تناولت هذه المؤلفات الأمور التي يجب أن يلم بها الجنود المسلمون في المواقف المختلفة وبالأسلحة المختلفة؛ حتى يكون الجندي عند شدائد الأمور -كما يذكر ابن منكلي في كتابه "الحيل في الحروب"- أروغ من ثعلب، وأثقف من هر.
وأشد احتراسًا من سلحفاة، وعند فرصته أخطف من باز خطوف. كما تحدثوا عن التدريبات المختلفة التي يجب أن يتدرب عليها الجنود، والحِيَل التي يجب أن يلمَّ بها المقاتل؛ حتى يتمكن من أن يقيَ نفسه من جميع الضربات.
كما تحدث هؤلاء الكتَّاب عن المواقف المختلفة التي تواجه المقاتل أثناء القتال، والحِيَل التي يمكن بها التخلص من تلك المواقف الحرجة، فيقول ابن منكلي في كتاب الحيل في الحرب، مخاطبًا الجنود: عليك أن يكون نظرك إلى العدوِّ، وإياك أن تشغل قلبك وبصرك لغير سلاح عدوك ووجهته.
مؤلفات عن الخيل والفروسية:
لم يغفل الكتَّاب الحديث عن الخيل وما يؤدي إلى قيامه بمهامه على أكمل وجهٍ لاعتماد الحروب في العصور الوسطى عليه، ومن أهم المؤلفات التي تحدثت عن الخيل والفروسية مخطوط "صفة السرج واللجام" لأبي بكر محمد بن الحسن الأزدي المتوفى سنة 1345هـ وقد طُبع في لندن سنة 1859م.
وكتاب "تميمة الأجياد في الصافنات النجباء الجياد" لمؤلفه القادري عبد القادر بن عربي، ومخطوط "النفحات المسكية في صناعة الفروسية" لمؤلفه السيد أحمد الحموي الحنفي المتوفى سنة 1142هـ/ 1729م، وقد حقَّقه عبد الستار القرغولي ببغداد سنة 1950م.
التعبئة والشئون المعنوية:
الباحث في فهارس المخطوطات يجد الكثير من تلك المؤلفات التي تقوم بالجانب التعبوي والتعبئة تضم الجنود والقادة، ومن أهم المؤلفات التي عالجت هذا الجانب مخطوط "التدبيرات السلطانية في سياسة الصنائع الحربية" لمحمد بن محمود بن منكلي، ولا نستطيع أن نغفل الجانب الإيماني والتعبئة الروحية للجنود مثلًا في الحثِّ على الجهاد.
فهذا الجانب لا يقل أهميةً عن المجال العسكري. ونذكر من هذه المؤلفات كتاب "الجهاد" للعلامة المجاهد السلمي أبو الحسن علي بن مسلم الدمشقي، وهو من محدِّثي دمشق الذي شهد أواخر عمره دخول الصليبيين بلاد الشام، والكتاب مقسَّمٌ إلى اثني عشر جزءًا، ذكر فيه معارك الإسلام الأولى ودور المجاهدين، مع ذكر الآيات والأحاديث النبوية التي تحضُّ على الجهاد وتُبين مكانة المجاهدين.
وهناك مخطوط بعنوان "أربعون حديثًا في الحث على الجهاد" لمؤلفه ابن عساكر، الذي أراد من خلاله تعبئة الأمة للجهاد ضد الصليبيين، والمخطوط محفوظ بمكتبة الأسد بدمشق. وكذلك مخطوط بعنوان "تحفة المجاهدين في العمل بالميادين" محفوظ بمكتبة إكسفورد لمؤلفه لاجين بن عبد الله الذهبي الحسامي الطرابلسي، وتوجد نسخةٌ منه في متحف برلين، وأخرى بمعهد المخطوطات العربية.
هذه لمحة من تراث حضارتنا الإسلامية، نأمل أن نكون قد وجَّهنا النظر لهذا الجزء المهمل منها.
الكاتب: د. عماد عجوة
المصدر: موقع إخوان أون لاين